إرشاد رسولي في الوردية: الخاتمة
إرشاد رسولي في المسبحة الوردية لمريم العذراء
الخاتمة
39- وردية العذراء المباركة هي سلسلة عذبة تربطنا بالسماء
إن ما قيل إلى الآن يعبِّر تعبيراً فائضاً عن غنى هذه الصلاة التقليدية التي تتمتع ببساطة الضراعة الشعبية وعمق الفكر اللاهوتي الذي يلائم مطلب الذين يشعرون بضرورة تأمل أوفر نضجاً.
إن الكنيسة قد اعترفت دوماً لهذه الصلاة بفاعلية خاصة، فاستودعتها أشد القضايا صعوبة، وعكفت على تلاوتها الجماعية وممارستها المستمرة.
في الأوقات التي كانت فيها الشعوب المسيحية مهددة، استطاعت هذه الصلاة بقوتها أن تبدد هذا الخطر، فحيَّت الكنيسة عذراء الناصرة وأقرت بأنها قد نالت الخلاص بفضل شفاعتها.
واليوم، وأنا أشير إلى ما قلته في مطلع رسالتي، أسلِّم بملء الرضى إلى فاعلية هذه الصلاة قضية السلام في العالم وفي الأسرة.
40- السلام
إن القضايا الشائكة التي تطلعنا عليها مراقبتنا للأوضاع العالمية القائمة في مطلع هذا الألف الجديد، تُنشئ فينا الاقتناع بأن تدخُّل السماء وحده قادر على أن يوجه إلى السلام من في أيديهم قرار الحروب ومصير الشعوب، وهذا التدخُّل يستطيع وحده أن يجعلنا نأمل مستقبلاً أقل عتمة وظلاماً.
إن الوردية هي صلاةٌ تتوجه بطبيعتها إلى تحقيق السلام، باعتبارها أنها تأمل في المسيح ملك السلام وسلامنا، فمن استوعب سر المسيح وما تدعو إليه الوردية، اطلع على ينبوع السلام وجعل السلام منهاج حياته.
يضاف إلى ذلك أن طابع الوردية التأملي الهادئ الناجم عن تسلسل أبيات السلام الملائكي يُحدث في نفس من يصلي ميلاً داخلياً أكيداً يجعله مستعداً لأن يقبل السلام الحقيقي الذي هو هبة من المسيح الحي القائم من بين الأموات، ويؤهله لأن يختبر هذا السلام في أعماق كيانه لكي ينشره حواليه.
إن الوردية هي صلاة السلام بسبب ثمار المحبة التي تنتجها. فمن تلاها تلاوة صلاة تأملية سهلت عليه الأسرار اللقاء بالمسيح وأشارت له إلى وجه المسيح في أخوته ولا سيما المتألمين منهم.
فيكف يمكن من يتلو أسرار الفرح أن يتأمل في سر ميلاد الطفل الإلهي في بيت لحم من دون أن يشعر بالرغبة في استقبال الحياة وحمايتها وتنشيطها والدفاع عن الأطفال المتألمين في مختلف أقطار العالم؟
وكيف يمكن من يتلو أسرار النور أن يتبع خطى المسيح الذي يطلعنا على الآب من دون أن يلتزم بالشهادة للتطويبات الإنجيلية في كل يوم من أيام حياته؟
وكيف يمكن من يتأمل في المسيح الذي حمل صليبه وصُلب عليه من دون أن يشعر بالحاجة إلى أن يقوم بدور القيرواني تجاه كل أخ حطمه الألم أو سحقه اليأس؟
وأخيراً، كيف يمكن من يثبّت عينيه في مجد المسيح القائم من بين الأموات وفي مجد مريم ملكة السماء من دون أن يشعر بالرغبة في أن يجعل هذا العالم أكثر جمالاً وأوفر عدالةً وأقرب إلى مخطط الله؟
وفي الواقع، إن الوردية عندما تدعونا إلى أن نُثبّت عيوننا في المسيح، تجعلنا أيضاً بناة السلام في العالم.
إن للوردية طابع الابتهال الجماعي والمستمر، ويلبي دعوة المسيح إلى “الصلاة من دون ملل” (لوقا 18: 1). ولذلك فإنها تسمح لنا بأن نأمل حتى في يومنا هذا أن نربح معركة السلام بالرغم مما فيها من صعوبة ومشقة.
إن الوردية لا تدفعنا إلى الهرب من مشكلات العالم، بل بالعكس، فإنها تحملنا علي أن نتطلع إليها بعين المسؤولية وكرم العطاء، وتناول لنا القدرة على مجابهتها بعزم وثبات النية، ونحن على يقين من الحصول على مؤازرة الله لنشهد في جميع المناسبات “للمحبة التي هي رباط الكمال” (قولوسي 3: 14).
41- الأسرة والوالدون
إن الوردية التي هي صلاةٌ لأجل السلام، كانت منذ القدم صلاة الأسرة وصلاة لأجل الأسرة. لقد مضت أيامٌ كانت هذه الصلاة محببة بنوع خاص إلى الأسرة المسيحية، وكانت تشجع جميع الأعضاء على أن يرتبطوا بعضهم ببعض، فيجب ألا نفقد هذا التراث الثمين. لذلك لا بد من العودة إلى تلاوتها في داخل الأسرة ولأجل الأسرة.
وإذا كنتُ قد شجعت المؤمنين العلمانيين في الإرشاد الرسولي Novo millennio ineunte على الاحتفال بالساعات الليتورجية في أثناء حياته العادية وفي اجتماعاتهم الرعوية مع المجموعات الكنسية المتنوعة، فإني أريد الآن أن أفعل الشيء نفسه بالنسبة إلى تلاوة الوردية. إنهما طريقان يؤديان إلى التأمل المسيحي، لا يختلفان قط بل يتكاملان. ولذلك فإني أطلب من الذين يكرسون ذواتهم لرعاية الأسرة، أن يوحوا إليها عن اقتناع تلاوة المسبحة.
إن الأسرة الموحدة في الصلاة تبقى موحدة. إن الوردية قد جُعلت وفق التقليد القديم لأن تكون صلاةً تجمع بتلاوتها الأسرة كلها. إن أعضاء الأسرة عندما يلقون على يسوع نظرة إيمان، ينعمون بقدرة مجددة على أن ينظر بعضهم إلى وجوه بعض لكي يتبادلوا الأفكار، ويعيشوا عيشة التضامن ويتسامحوا وينطلقوا من جديد باتفاق المحبة التي يجددها فيهم روح الله.
إن المشكلات الكثيرة القائمة في داخل الأسر الحديثة، ولا سيما في أسر المجتمعات المتقدم اقتصادياً، لا تجد لها حلاً بسبب الصعوبة المتزايدة التي يلاقيها الأعضاء ليتبادلوا الأفكار بينهم، إنهم لا يتمكنون من الجلوس معاً، والأوقات القليلة التي يتلاقون فيها مأخوذة بمشاهدة صور التلفزيون. فإذا عادت الأسر إلى تلاوة المسبحة، أدخلت إلى حياتها العادية صوراً تختلف عنها كثيراً، إنها صور السر الذي يخلص أي صورة الفادي وصورة أمه الفائقة القداسة.
إن الأسرة التي تصلي، تحقق في داخلها بعض الشيء من مناخ بيت الناصرة، فأعضاؤها يُنصّبون يسوع في وسطهم، ويتقاسمون بينهم الأفراح والآلام، ويضعون بين يديه حاجاتهم ومشاريعهم ويقبلون منه الأمل والقوة على متابعة الطريق.
42- الأولاد
إنه لعمل حسنٌ ومثمرٌ أن نسلّم إلى هذه الصلاة أيضاً طريق نمو الأولاد. أليست الوردية الطريق الذي سلكه يسوع في حياته بدءاً من الحبل به إلى موته إلى قيامته إلى التمتع بمجده؟
إن صعوبة متابعة الأهالي لأولادهم في مختلف مراحل حياتهم تتزايد يوماً بعد يوم، ذلك لأن مجتمعنا الذي يتميز بالتقنية ووسائل الإعلام والعولمة، أصبح فيه كل شيء سريعاً جداً، وأن المسافة الثقافية بين الأجيال تتسع كل يوم أكثر فأكثر. إن المعلومات المختلفة والخبرات غير المتوقعة تنهال على حياة الأطفال والفتيان، فيشعر الأهالي بالمشقة في مواجهة الأخطار التي يتعرضون لها. وليس من النادر أن يختبر الأهالي نتائج خيبة الأمل المؤلمة عندما يطّلعون على فشل أولادهم بسبب إغراءات المخدرات وجاذبية إيديولوجيات الملذات الجسدية غير المحدودة، والدوافع إلى العنف ونظريات عدم المعنى للحياة التي نحياها والاستسلام إلى اليأس.
ومما لا شك فيه إن صلاة الوردية لأجل أولادنا –أو بالأحرى مع أولادنا- ونحن نربيهم منذ صغرهم على قبول هذه الفترة اليومية التي تتوقف فيها الأسرة للراحة لأجل الصلاة، لا تقدم لهم الحل لجميع مشكلاتهم ولكنها توفر مساعدة روحية لا يستهان بها.
ويعترض بعضهم على المسبحة الوردية فيقولون أنها صلاةٌ لا توافق مزاج فتيان وشبابا اليوم. إن هذا الاعتراض يأتي من الطريقة غير الموفقة التي تتلى بها الوردية. فإذا حافظنا على ترتيب الوردية الأساسي، فلا مانع من أن يتلوها الأولاد –في الأسرة أو مع الجماعة- بأساليب غنية بالشعارات الرمزية وبطريقة تسهل عليهم فهمها وتظهر لهم قيمتها. لماذا لا نجرب ذلك؟ إن رعاية الشباب لا تيأس أبداً، بل تبقى دوماً نشيطة وخلاقة وقادرة على أن تعمل بعون الله أعمالاً لها تأثير عميق في نفوسهم. إن الأيام العالمية للشبيبة قد أظهرت لي صواب هذه الفكرة. فإذا قُدمت المسبحة الوردية بأسلوب جيد، فإني متيقن أن الشباب أنفسهم قادرين على أن يثيروا دهش الراشدين الكبار عندما يجعلون الوردية صلاتهم ويتلونها بالحماسة التي تتميز بها أعمارهم.
43- الوردية كنز يجب اكتشافه من جديد
أيها الأخوة والأخوات الأحباء، إن صلاة الوردية التي تتمتع على السواء بالسهولة الرائعة والغنى العظيم، تستحق فعلاً أن تكتشفها الجماعة المسيحية اكتشافاً جديداً. فلقم بهذا العمل وخصوصاً هذه السنة، ولنقبل هذا العرض تأكيداً للخط الذي رسمه الإرشاد الرسولي Novo millennio ineunte والذي استوحت منه كنائس كثيرة أفكاراً عدة للقيام بمشاريعها الرعوية بهدف وضع مخطط لالتزاماتها في المستقبل القريب.
إني أتوجه إليكم بنوع خاص أيها الأخوة الأحباء في الأسقفية، وأيها الكهنة والشمامسة، وأيها العاملون في المجالات الرعوية والملتزمون بالخدمات المتنوعة، حتى إذا ما اختبرتم شخصياً جمال الوردية، تنشرون تلاوتها بكل ما أوتيتم من نشاط.
وإني أتحدث إليكم أيها اللاهوتيين، وأطلب منكم أن تقوموا بتفكير دقيق وحكيم معاً مؤسس على كلام الله، وواعٍ لحياة الشعب المسيحي، تظهرون فيه ما لهذه الصلاة التقليدية من أسس كتابية وغنىً روحي وقيمة رعوية.
وإني أعتمد عليكم أيها المكرسون، رجالاً ونساءً، أنتم المدعوين دعوة خاصة إلى التأمل في وجه المسيح على مثال مريم.
وإني ألتفت إليكم أيها الأخوة والأخوات من كل طبقة، وإليكِ أيتها الأسرة المسيحية، وإليكم أيها المرضى والعجزة، وإليكم أيها الشباب: اتخذوا المسبحة بثقة بين أيديكم واكتشفوها من جديد على ضوء الكتاب المقدس بالوفاق مع الليتورجية وفي إطار الحياة اليومية.
أملي ألا يبقى ندائي دعوة ضائعة في مهب الريح، ففي مطلع السنة الخامسة والعشرين من حبريتي، أضع إرشادي الرسولي هذا بين يدي مريم العذراء الحكيمتين، وأنحني أمام أيقونتها في المعبد الرائع الذي بناه لها الطوباوي بَرتولو لونغو رسول الوردية. وإني أتمنى بملء الرضى الكلمات المؤثرة التي أنهى بها كتابه الشهير “التوسل إلى ملكة الوردية” : “أيتها الوردية التي باركتها مريم، أيتها السلسلة العذبة التي تربطنا بالله، يا رابطة المحبة التي تضمنا إلى الملائكة، يا برج الحكمة الصامد أمام هجمات الجحيم، يا ميناء الأمان الذي يحمينا من الغرق المشترك، إننا لن نتخلى عنك أبداً. كوني عزاءنا في ساعة التراع، لك نقدم آخر قبلة من حياتنا التي تنطفئ. سيكون اسمك العطر آخر كلمة نلفظها يا سيدة بومباي الوردية، يا أمنا الحبيبة، يا ملجأ الخطأة، يا أسمى عزاء للمتألمين. كوني مباركة في كل مكان اليوم ودائماً على الأرض وفي السماء”
صدر الإرشاد الرسولي عن الفاتيكان
في 16 تشرين الأول 2002
في مطلع السنة الخامسة والعشرين من حبريتي
البابا يوحنا بولس الثاني