إرشاد رسولي في الوردية: الفصل الثاني

 إرشاد رسولي في المسبحة الوردية لمريم العذراء

الفصل الثاني
أسرار المسيح وأسرار أمه مريم

 

18- المسبحة الوردية هي ملخص الإنجيل

يجب علينا، لكي نتمكن من مشاهدة وجه المسيح والتأمل فيه، أن نصغي إلى صوت الآب، لأنه “لا أحد يعرف الابن إلا الآب”. فلما كان يسوع بقرب مدينة قيصرية فيلبس، اعترف بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي، فأكد له يسوع بكل دقة أن مصدر نظرته الثاقبة التي مكنته من أن يحدد هوية يسوع قد جاء من الآب “لا لحم ولا دم كشفا لك هذا، ولكن أبي الذي في السموات” (متى 16: 17). ولذلك فإن الوحي الصادر من لدن الله هو أمر ضروري، ولا بد ليك نقبل هذا الوحي من أن نقف موقف الإصغاء. إن خبرة الصمت والصلاة هي وحدها تضعنا في الجو المناسب الذي يسمح لنا بأن نعرف سر المسيح معرفة حميمية أمينة وكاملة، وبأن نجعل هذه المعرفة تنضج وتنمو.

إن تلاوة المسبحة الوردية هي إحدى الطرق التقليدية التي تمكننا من مشاهدة وجه يسوع والتأمل فيه. لقد كتب البابا بولس السادس ما يلي: “إن المسبحة الوردية المركزة على سري التجسد والفداء، توجهنا بوضوح إلى المسيح. فإن عنصرها المميز –وهو ترداد صلاة السلام عليكِ يا مريم- يصبح هو أيضاً تسبيحاً غير منقطع للمسيح الذي بشر به الملاك، والذي سلمت أليصابات أم يوحنا المعمدان على مريم العذراء بسبب وجوده في أحشائها حين قالت لها: “مباركة ثمرة بطنك”. وإننا نقول أكثر من ذلك: إن ترداد صلاة السلام عليكِ يؤّلف الأرضية التي تنمو عليها مشاهدة الأسرار والتأمل فيها. فإن اسم يسوع الذي نذكره في كل مرة نتلو السلام عليكِ هو الاسم الذي يعرضه علينا تتابع الأسرار، ويؤكد لنا أنه ابن الله وابن العذراء على السواء.

 

19- إضافة في محلها

إن المسبحة الوردية كما هي مرتبة في تلاوتها العملية التي وافقت عليها السلطة الكنسية، لا تحتفظ من بين أسرار حياة المسيح إلا ببعضها فقط. إن اختيار هذه الأسرار قد فُرض منذ البدء على المسبحة الوردية لتحافظ على العدد المئة والخمسين المناسب لعدد المزامير.

يبدو لي أنه إذا ما أردنا أن نعطي للوردية طابعاً أكثر علاقة بالمسيح، فإنه يحسن بنا أن نضيف إليها بعض الأبيات. وإن كنا نترك تقدير هذا الأمر للأشخاص والكنائس المحلية، نرى أن هذه الإضافة تأتي على ذكر أبرز أسرار حياة يسوع العلنية الممتدة من المعمودية إلى الآلام. فإننا بسرد ذكرى هذه الأسرار، يمكننا أن نتأمل في بعض جوانب شخصية المسيح على اعتبار أنه قد جاء بالوحي الكامل والنهائي. فإن الله الآب قد أعلن أنه ابنه الحبيب عندما قَبِلَ المعمودية في نهر الأردن. أما المسيح فقد بشر بالملكوت وشهد له بأعماله وأعلن على الملأ مطالبه. ففي خلال سنوات حياته العلنية، ظهر ببيان خاص أن سر المسيح هو سر النور “ما دمت في العالم فأنا نور العالم”. (يوحنا 9: 5).

إذا أردنا أن نتمكن من أن نقول قولاً كاملاً أن الوردية هي ملخص الإنجيل، فإنه بعدما ذكرنا التجسد وحياة المسيح الخفية (أسرار الفرح)، وتوقفنا عند الآلام والموت (أسرار الحزن)، وعند بهجة القيامة (أسرار المجد)، يليق بنا أن نوجه تأملنا إلى بعض أحداث من حياة يسوع العلنية التي تتصف بمعاني عميقة (أسرار النور). إن إضافة هذه الأسرار الجديدة لا تشوه صيغة الصلاة التقليدية، بل تهدف إلى وضعها في صلب الروحانية المسيحية، وتجلب إليها انتباه المؤمنين، لأنها تعبّر عمّا في أعماق قلب يسوع من فرح ونور وألم ومجد.

 

20- أسرار الفرح

إن المجموعة الأولى من المسبحة الوردية هي مجموعة أسرار الفرح. إنها تتميز بالفرح الحقيقي الذي ينبعث من حادث التجسد.

إن هذا الأمر واضح منذ أن دخل الملاك جبرائيل إلى مريم في الناصرة وبشرها، ودعاها إلى أن تفرح بمجيء المسيح “افرحي يا مريم”. إن تاريخ الخلاص كله، بل أقول إن تاريخ البشرية نفسه يتوجه نحو البشارة. ذلك لأنه إذا كان مخطط الآب هو أن يجمع كل شيء في المسيح، فإن الكون كله قد حظي –نوعاً ما- بالعطف الإلهي عندما مال الله الآب إلى مريم لتكون أم ابنه. والبشرية كلها بدورها قد أطاعت الله في طاعة مريم التي لبَّت بسرعة إرادة الله.

إن حادث الزيارة لأليصابات قد اكتسى هو الآخر بالابتهاج. فإن صوت مريم وحضور المسيح في أحشائها قد جعلا يوحنا يهتز طرباً.

أما ميلاد الطفل الإلهي في بيت لحم فقد غمرته البهجة عندما أنشدت له الملائكة، ولقي به الرعاة البشرى بفرح عظيم.

ولكن السرين الأخيرين اللذين احتفظا بنغمة من الفرح قد لمّحا إلى علامات مأساة الصليب، ذلك لأن التقدمة إلى الهيكل التي عبّرت عمّا شعر به يسوع من فرح في تكريس ذاته لله أبيه، وعمّا جرى لقلب سمعان الشيخ من اختطاف روحي، قد أشارت بوضوح إلى أن الطفل سيكون في شعب إسرائيل هدفاً للمخالفة، وإلى أنَّ سيفاً يخترق قلب أمه.

أما حادث بقاء يسوع في الهيكل، لمّا بلغ اثنتي عشر سنة، فهو حادث بهيج ومأساوي على السواء. لقد ظهر يسوع في حكمته الإلهية عندما كان يسأل ويصغي، وتبين للعلماء أنه هو المعلم. إن وحي سر ابن الله الذي خصص نفسه لما هو لأبيه يعلن أن للإنجيل مطالب جذرية تفرض أحياناً على المرء أن يقطع أحبَّ الروابط إليه. أما مريم ويوسف اللذان كانا متوجعين فلم يفهما كلام يسوع.

وإذا تأملنا في أسرار الفرح، تمكنا من معرفة الأسباب الصحيحة التي تُنشئ فينا الفرح العميق. إنها النتائج العملية لسر التجسد، ومن أبرزها فداء البشرية وإعلان سر الألم الذي يطهرنا من خطايانا ويؤدي بنا إلى الخلاص، وإن كان هذا الإعلان لم يزل آنذاك يكتنفه الغموض والخفاء. إن مريم تقودنا إلى سر الفرح المسيحي عندما تذكرنا بأن الدين المسيحي هو قبل كل شيء إنجيل أي بشرى سارة، أهم ما تحتوي عليه هو شخص المسيح، الكلمة الذي صار إنساناً وهو المخلص الأوحد للعالم.

 

21- أسرار النور

عندما ننتقل من طفولة يسوع ومن حياته في الناصرة إلى حياته العلنية، نرى أنفسنا منقادين إلى التأمل في الأسرار التي نسميها باسم خاص (أسرار النور). ففي الحقيقة إن سر المسيح بمجمله نور لأن المسيح هو نور العالم. إن هذا النور العالمي نراه رؤية واضحة في أثناء حياته العلنية التي بشر في أثنائها بإنجيل الملكوت. وإذا أردنا أن نعيّن للجماعة المسيحية خمسة أوقات –أو خمسة أسرار النور- قد حدثت في هذه الحقبة من حياة يسوع، فإنه يبدو لي أننا نستطيع أن نحدد هذه الأسرار الخمسة على النحو التالي:

1- السر الأول: معمودية يسوع في نهر الأردن.

2- السر الثاني: ظهور شخصية يسوع في عرس قانا الجليل.

3- السر الثالث: تبشير يسوع بملكوت الله ودعوته إلى التوبة.

4- السر الرابع: تجلي يسوع على الجبل.

5- السر الخامس: تأسيس يسوع للإفخارستيا التي هي تعبير سري عن حقيقة قيامته.

إن كل واحد من هذه الأسرار الخمسة هو كشف عن الملكوت الذي كان حاضراً منذ ذلك الحين في شخص يسوع.

إن معمودية يسوع في نهر الأردن هي قبل كل شيء سر النور. ففي هذا المكان، فيما كان المسيح ينزل إلى مياه النهر– وهو البريء الذي جعل نفسه خطيئة لأجلنا (2 كورنتس 5: 21)- انفتحت له السموات، وأعلن صوت الآب أنه ابنه الحبيب، ونزل عليه الروح القدس ليوشحه بالمهمة الدينية التي كانت تنتظره.

أما الآية الأولى في قانا الجليل فكانت سر النور، فإن المسيح لمّا حوّل الماء إلى خمر فتح قلوب تلاميذه إلى الإيمان به، وذلك بفضل تدخل مريم المؤمنة الأولى.

ثم إن سر النور هو أيضاً تبشير المسيح بملكوت الله، ودعوته إلى التوبة وإلى مغفرة خطايا الذين يدنون منه بإيمان وتواضع. إن عمل الرحمة الذي بدأه آنذاك، سيتابعه حتى انقضاء الأزمنة، وسيتابعه بنوع خاص في سر المصالحة الذي سلمه إلى كنيسته.

إن تجلي المسيح هو سر النور بأسمى معانيه. إن التقليد عيَّن جبل طابور مكاناً للتجلي. فلما ظهر مجد الألوهية على وجه المسيح استولى الاختطاف العميق على التلاميذ، وأعلن الله الآب أن يسوع ابنه الحبيب، وأمرهم بأن يسمعوا له ويهيئوا له أنفسهم ليحيوا معه في أثناء آلامه ويبلغوا معه إلى فرح القيامة وإلى حياة مقدسة تتجلى بالروح القدس.

وأخيراً، فإن الإفخارستيا أيضاً سر النور. لقد جعل المسيح بها جسده ودمه طعاماً وشراباً تحت شكلي الخبز والخمر، وأعطى حتى النهاية شهادة حبه للبشرية التي قدم ذاته ذبيحة في سبيلها.

ففي هذه الأسرار، ما عدا سر قانا الجليل، لم تكن مريم حاضرة إلا من خلف الستار. فإن الأناجيل لا تبدي إلا بعض تلميحات إلى حضورها القصير من وقت إلى آخر في أثناء تبشير يسوع ولا تقول شيئاً على الإطلاق، كوجودها غير المحتمل في غرفة العشاء الأخير أثناء تأسيس الإفخارستيا. ولكنّ المهمة التي قامت بها في قانا الجليل قد رافقت بطريقة ما مسرة المسيح كلها. فالوحي الذي أنزله الله الآب في وقت المعمودية، والذي اطّلع عليه يوحنا المعمدان، كان على شفتي مريم في قانا الجليل، وأصبح الوصية الكبرى التي وجهتها إلى كنيسة الأزمنة كلها: “اعملوا ما يقوله لكم”. إنها وصية تطبع في قلوبنا كلام المسيح وآياته التي جرت في حياته العلنية، وتؤلف الطابع الخلفي المريمي لجميع أسرار النور.

 

22- أسرار الحزن

إن الأناجيل تعطي أسرار الحزن أهمية كبيرة. أما المسيحيون فقد كانوا منذ القدم يتوقفون لدى تلاوة صلوات درب الصليب عند كل مرحلة من مراحل آلام المسيح، لأنهم فهموا أن آلامه هي التعبير عن حبه للبشر، وأن هذه الآلام هي ينبوع خلاصنا. والمسبحة الوردية تختار بعض مراحل الآلام وتدعو المصلي إلى أن يوجه إليها رؤية عينيه ورؤية قلبه، وأن يحيا هذه الآلام مع مريم.

إن تسلسل التأمل يبتدئ في الجسمانية، حيث قضى المسيح فترة من الزمن حالة انقباض للنفس شديد للغاية، أمام إرادة الآب التي يتعرض الضعف البشري إلى التمرد عليها. ففي هذه الفترة مكث يسوع في مكان تجارب البشرية كلها وواجه خطايا البشر ليقول لأبيه: “لا تكن مشيئتي بل مشيئتك”.(لوقا 22: 24). إن طاعته تمحو عصيان أبوينا الأولين في جنة عدن، وإن ما تحمَّله طاعةً لإرادة أبيه تعبِّر عنها الأسرار المتتابعة وهي الجلد وإكليل الشوك والصعود إلى جبل الجلجلة والموت على الصليب التي بلغ بها أقصى درجات الذل “هو ذا الرجل”.

إن هذا الذل لم يُظهر حب الله فحسب، بل حقيقة الإنسان أيضاً “هو ذا الرجل”، فمن أراد أن يعرف حقيقة الإنسان يجب عليه أن يعرف أيضاً غاية الإنسان وأصله واكتماله في المسيح. يجب عليه أن يعرف أن الله قد حط نفسه عن حبٍّ “حتى الموت، الموت على الصليب”(فيلبي 2: 8). إنَّ أسرار الحزن تقود المؤمن إلى أن يحيا من جديد موت المسيح عندما يركع عند قدم الصليب إزاء مريم، لكي يستوعب معها عمق حب الله للإنسان، ويشعر بالقوة العظيمة التي تنعشه.

 

23- أسرار المجد

إن التأمل في وجه المسيح لا يمكن أن يتوقف عند وجهه وهو مصلوب، لأنه قد قام حياً من بين الأموات.

إن المسبحة الوردية قد عبّرت دوماً عن الشعور بهذا الإيمان، ودعت المؤمن إلى أن يتجاوز ظلام الآلام ويثبت بصره في مجد المسيح الحي الذي قام من بين الأموات وصعد إلى السماء. فبتأمله في قيامة المسيح، يكتشف المسيحي سبب إيمانه به(1 كورنتس 15: 14)، ويعيش لا فرح الذين ظهر لهم المسيح فحسب-وهم الرسل ومريم المجدلية وتلميذا عماوس- بل فرح مريم العذراء أيضاً التي عرفت معرفة واضحة أن ابنها قد أخذ يحيا بالقيامة حياة جديدة.

ثم إن مريم العذراء بانتقالها إلى السماء بالنفس والجسد قد انضمت إلى هذا المجد الدائم الذي نعم به ابنها لمّا صعد قبلها إلى السماء وجلس إلى يمين الآب. وبذلك قد سبقت الجميع بفضل امتياز خاص من الله، وتمتعت بالمصير السعيد المُعد لجميع الأبرار الذين سوف تقوم أجسادهم حية من القبور.

ويشير آخر سر من أسرار المسبحة إلى أن مريم قد تكللت ببهاء المجد في السماء، وأضحت ملكة الملائكة والقديسين، فنعمت بفضل تدبير سابق من الله بما سوف تنعم به الكنيسة عند انقضاء الدهر.

أما السر الثالث من أسرار المجد، فإن المسبحة الوردية تضع في وسط مسيرة الابن والأم حادث العنصرة، الذي يظهر وجه الكنيسة كأسرة متحدة بمريم، تنعشها قوة الروح القدس وتجعلها مستعدة لأن تقوم برسالتها التبشيرية بالإنجيل. إن التأمل في هذا السر، كالتأمل في سائر أسرار المجد من شأنه أن يدفع المؤمنين إلى أن يشعروا شعوراً أقوى بوجودهم الجديد في المسيح، وبواقع قيام الكنيسة. وهذا الوجود الجديد يجعل من حادث العنصرة أيقونة عظيمة.

وهكذا، فإن أسرار المجد تغذي لدى المؤمنين رجاءهم في نهاية سعيدة يسيرون إليها خلال التاريخ وهم أعضاء شعب الله. إن هذا الرجاء القوي لا يمكن إلا أن يدفعهم إلى أن يشهدوا بشجاعة لهذه البشرى البهيجة التي تعطي معنىً لوجودهم كله.

 

24- من الأسرار إلى السر: طريق مريم

إن مجموعة التأملات المتتابعة التي تعرضها المسبحة الوردية على المؤمنين لا تحيط بالمواضيع كلها إحاطة كاملة، بل تكتفي بأن تذكرهم بأهمها وأبرزها، وتبث فيهم الشوق إلى معرفة المسيح معرفة تدفعهم إلى المطالعة المباشرة لنصوص الإنجيل. إن كل حادثة من حوادث حياة المسيح، كما سردها الإنجيليون تتلألأ في هذا السر الذي يفوق كل معرفة. إنه سر الكلمة الذي أسبح جسداً وقد حلّ في جسده كمال الألوهية. ولذلك فإن التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يُلّح على أسرار المسيح ويذكّر القراء بأن كل حياة يسوع هي علامة سره. إن انطلاقة الكنيسة في الألف الثالث تقاس بمقدار قدرة المسيحيين على “تبين سر الله، أعني المسيح الذي استكّنت فيه جميع كنوز الحكمة والمعرفة”.( قولوسي 2: 2-3).

فكل واحد من المعمدين يوجه إليه التمني الحار الذي نقرأه في الرسالة إلى أهل أفسس: “ليُقِم المسيح في قلوبكم بالإيمان. تأصلوا في المحبة… هكذا تعرفون محبة المسيح التي تفوق كل معرفة، وتتسعون لكل ما عند الله من سعة”(أفسس 3: 17-19).

إن المسبحة الوردية تقوم بخدمة هذا المثل الأعلى، وتكشف عن السر الذي يسمح للمؤمنين بأن يطلعوا إطلاعاً أوفر على معرفة المسيح التي تتصف بالعمق والالتزام. ويمكننا أن نسمي هذا المثل الأعلى “طريق مريم”. إنه طريق حياة عذراء الناصرة التي كانت امرأة الإيمان والصمت والإصغاء. وهو أيضاً طريق تكريم مريم، المنتعش بمعرفة العلاقة التي تربط المسيح بأمه الفائقة القداسة برباط لا ينفصم. فإن أسرار المسيح هي –نوعاً ما- أسرار أمه حتى وإن لم تكن حاضرة فيها حضوراً مباشراً، إذ أنها تعيش منه وبه. ونحن عندما نتلو السلام الملائكي، نتبنى أقوال الملاك جبرائيل وأليصابات، ونرى أنفسنا مندفعين دوماً إلى أن نبحث بطريقة جديدة في مريم وبين يديها وفي قلبها عن “ثمرة أحشائها المباركة”.

 

25- سر المسيح هو سر الإنسان

في شهادتي التي قمت بها في العام 1978 للمسبحة الوردية، صلاتي المفضلة، والتي ذكرتها سابقاً، كنت قد عبّرت عن فكرة أريد أن أعود إليها الآن مرة أخرى. لقد قلت آنذاك أن صلاة المسبحة الوردية هي الصلاة البسيطة التي تتسلسل وفق تسلسل الحياة.

فعلى ضوء الأفكار التي عرضتها عن أسرار المسيح حتى الآن، فإنه ليس من الصعب أن نتعمق في تلاؤم المسبحة الوردية مع حياة الإنسان، هذا التلاؤم الذي هو جذري أكثر مما يبدو لنا للوهلة الأولى. فمن أخذ يتأمل في المسيح ويتذكر مراحل حياته، لا يمكنه إلا أن يكتشف فيه الحقيقة عن الإنسان. هذه الفكرة الكبرى التي أكدها المجمع الفاتيكاني الثاني والتي ذكرتها مرات كثيرة في تعليمي الرسمي منذ أن أصدرت رسالتي العامة Redemptor Hominis. قال المجمع: “في الواقع إن سر الإنسان لا يستنير حقاً إلا بنور سر الكلمة المتجسد”. فالمسبحة الوردية تساعد الإنسان على أن ينفتح على هذا النور. فعندما يتبع طريق المسيح الذي يتلخص فيه طريق الإنسان ويتوضح وينال الفداء، فإنه يضع نفسه أمام صورة الإنسان الحقيقي. فإذا تأمل في ميلاد المسيح، ظهر له الطابع المقدس الذي تتميز به الحياة. وإذا تطلع إلى بيت الناصرة، تعلم حقيقة تأسيس الأسرة بحسب مخطط الله. وإذا سمع المعلم في أسرار حياته العلنية، بلغ إلى النور الذي يمكّنه من دخول ملكوت الله. وإذا تبعه على طريق الجلجلة، تعلم معنى الألم الذي يخلص الإنسان. وأخيراً، إذا تأمل في المسيح وفي أمه وهما في المجد، رأى الهدف الذي يُدعى إليه كل واحد منا بشرط أن يدع الروح القدس يشفيه ويغيره نحو الأفضل. وهكذا نستطيع أن نقول أن كل سر من أسرار الوردية إذا تأملنا فيه يضيء لنا سر الإنسان.

وإنه من الطبيعي في الوقت نفسه، أن نحمل إلى لقاءنا بإنسانية المخلص مشكلاتنا الكثيرة وهمومنا وأتعابنا ومشاريعنا التي تميز حياتنا “ألقِ على الرب همّك فهو يعولك” (مزمور 45: 23)

إن التأمل في المسبحة الوردية يقوم بأن نسلّم أثقال حياتنا إلى قلبي يسوع وأمه الحنونين. وإذا عدتُ بالفكر إلى المحن التي انتابتني منذ خمس وعشرين سنة، حتى في أثناء ممارسة مهمتي كخليفة لبطرس، أشعر بالحاجة إلى أن أقول للجميع بأسلوب دعوة حارة موجهة إليهم أن يختبروا هذا الأمر بأنفسهم. نعم، إنَّ المسبحة الوردية تعطي للحياة البشرية تسلسلها، لتُجاري الحياة الإلهية في فرح الاشتراك مع الثالوث الأقدس، هذا الاشتراك الذي هو المصير الأخير لوجودنا.


قد يعجبك ايضاً
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.