إرشاد رسولي في المسبحة الوردية لمريم العذراء

إرشاد رسولي في المسبحة الوردية لمريم العذراء
وجهه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى الأساقفة والاكليروس والعلمانيين

تقديم

إليكم يا من تحبون العذراء مريم

“وإذ أشكر الرب على السنين الأربع والعشرين في خدمة الكنيسة على كرسي بطرس، أود أن أردد اليوم هذه الكلمات: إنني بكلِّيتي لكِ يا مريم، آمين”.

إلى مريم الكلية الطهارة سلَّمت هذه الألفية الجديدة. أريد أن أشهد على هذه الثقة ببادرتين رمزيتين هما:

– أن أنشر وثيقة مكرسة لصلاة المسبحة، مسبحة العذراء مريم

– أن أعلن “سنة المسبحة الوردية” التي ستستمر من تشرين الأول 2002 إلى تشرين الأول 2003.


الفهرس

1-المقدمة
2-الأحبار الرومانيون والمسبحة الوردية
3-سنة المسبحة الوردية
4-اعتراضات على تلاوة المسبحة الوردية
5-طريق المشاهدة التأملية
6-الصلاة لأجل السلام والأسرة
7-هذه أمك
8-على خطى الشهود

الفصل الأول: نشاهد المسيح ونتأمل فيه مع مريم

9-وجه يتلألأ كالشمس
10-مريم مثال المشاهدة التأملية
11-ذكريات مريم
12-المسبحة الوردية صلات تأمل
13-التذكر بالمسيح مع مريم
14-نتعلم من مريم من هو المسيح
15-يجب أن نكون على مثال صورة المسيح
16-التوسل إلى المسيح مع مريم
17-التبشير بالمسيح مع مريم

الفصل الثاني: أسرار المسيح و أسرار مريم

18-المسبحة الوردية هي ملخص الإنجيل
19-إضافة في محلها
20-أسرار الفرح
21-أسرار النور
22-أسرار الحزن
23-أسرار المجد
24-من الأسرار إلى السر : طريق مريم
25-سر المسيح سر الإنسان

الفصل الثالث: الحياة عندي هي المسيح

26-المسبحة طريق لاستيعاب هذا السر
27-طريقة لها قيمتها
28-طريقة يمكن تحسينها
29-التعبير الشفوي عن مضمون السر
30-الاستماع إلى كلام الله
31-الصمت
32-الصلاة الربية
33-السلام الملائكي عشر مرات
34-تلاوة المجد للآب والابن والروح القدس
35-الصلاة الختامية بعد صلاة المسبحة
36-المسبحة
37-البدء بالمسبحة وختامها
38-توزيع المسبحة على أيام الأسبوع

الخاتمة

39-وردية العذراء المباركة
40-السلام
41-الأسرة والوالدون
42-الأولاد
43-الوردية كنز يجب اكتشافه من جديد

1- المقدمة

المسبحة الوردية التي اتّسع انتشارها تدريجياً خلال الألف الثاني هي صلاة أحبّها الكثير من القديسين، وشجعت على تلاوتها السلطة الكنسية، لأنها تتلائم مع الخط الروحي الذي يسير عليه الدين المسيحي. إن هذا الدين الذي لم يفقد شيئاً من نضارة أصوله خلال ألفي عام، يشعر بأنَّ روح الله يدفعه إلى “أن يتقدم في العمق” ليقول للعالم من جديد وبأعلى صوته: إنَّ المسيح هو الرب والمخلص، وأنه الطريق والحق والحياة، وأنَّه غاية التاريخ البشري والجهة التي تتوجه إليها رغبات التاريخ.

إنَّ المسبحة الوردية، وإن تميزت بطابعها المريمي، هي صلاة تضع المسيح في المحور، وهي بالرغم من عناصرها الموجزة تجسد عمق الرسالة الإنجيلية وتكاد تلخّصها، فإن فيها صدىً جديداً لصلاة مريم ونشيدها الدائم “تعظم نفسي الرب” الذي أنشدته لحادث التجسد الفدائي والذي ابتدأ في أحشائها الطاهرة. فمع المسبحة الوردية يقتدي الشعب المسيحي بمثَلِ مريم، ويدَع نفسه يُؤخذ بمشاهدة جمال وجه المسيح وبالخبرة العميقة لحبه، كما أنَّ المؤمن يحصل بالوردية على نِعَمٍ غزيرة تتدفق – نوعاً ما – من يدي أُمِّ المخلص ..

 

2- الأحبار الرومانيون والمسبحة الوردية

اهتم الكثير من البابوات أسلافي اهتماماً كبيراً بهذه الصلاة، ولكنَّ الفضل الأكبر يرجع إلى البابا لاون الثالث عشر الذي أصدر في الأول من أيلول عام 1883 الرسالة العامةSupremi apostolatus officio والتي فيها أقوالاً بليغة، ذكر فيها مجموعة من المداخلات التي تخص هذه الصلاة وقدّمها للمؤمنين وسيلة روحية فعالة لكبح جماح شرور المجتمع. ومن أقرب البابوات إلينا وأشهرهم وأكثرهم اندفاعاً لنشر المسبحة الوردية في أيام انعقاد المجمع الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرون، خصوصاً البابا بولس السادس الذي بيَّن بوضوح في الإرشاد الرسولي Marialis cultus وبالاستناد إلى ما أوحاه إلى المجمع الفاتيكاني الثاني، الطابع الإنجيلي للمسبحة الوردية وتَوجُّهها نحو عبادة المسيح.

أمّا أنا فإني لم أهمل أية مناسبة لأحث الناس على تلاوة المسبحة الوردية بتواتر. فمنذ أيام شبابي، كانت لهذه الصلاة مكانتها الهامة في حياتي الروحية، وسفري الأخير إلى بولونيا ذكّرني بذلك بقوة، ولا سيما لمّا زرت معبد كالواريا Kalwaria.

إنَّ المسبحة الوردية قد رافقتني في أوقات أفراحي وأوقات شدائدي، وإني قد أودعتها اهتمامات كثيرة فوجدت فيها المؤازرة دوماً. ومنذ أربع وعشرين سنة، في 29 تشرين الأول عام 1978، ولم يكد يمضي أسبوعان على انتخابي وجلوسي على كرسي بطرس، كشفت عن بعض ما في نفسي وصرحت بما يلي: “إن المسبحة الوردية هي صلاتي المفضلة. إنها صلاة رائعة، رائعة ببساطتها وعمقها. ويمكننا أن نقول أنها إلى حد ما صلاةٌ وشرحٌ للفصل الأخير من الدستور Lumen gentium الذي أصدره المجمع الفاتيكاني الثاني، إذ أن هذا الدستور يبحث بطريقة رائعة في موضوع حضور أم الله في سر المسيح وسر الكنيسة. ففي خلفية أبيات “السلام عليك يا مريم” المتتابعة، تمر أهم أحداث حياة يسوع. إنَّ هذه الأحداث التي جُمعت في أسرار الفرح وأسرار الحزن وأسرار المجد، تصلنا اتصالاً حياً بيسوع – وأقول- من خلال قلب أمه مريم. إننا في الوقت نفسه نستطيع أن نجمع في عقود المسبحة الوردية كل أحداث حياتنا الفردية أو العائلية، وأحداث حياة بلادنا وحياة الكنيسة والبشرية، أي أحداثنا الشخصية وأحداث الآخرين ولا سيما الذين هم أقرب الناس إلينا وأحبَّهم على قلوبنا. وهكذا تنساب المسبحة الوردية البسيطة على وتيرة الحياة البشرية”. بهذه الأقوال أيها الإخوة والأخوات، وضعت على وتيرة التلاوة اليومية للمسبحة الوردية أولَّ سنة من حبريتي.

واليوم، في مطلع السنة الخامسة والعشرين من حبريتي كخليفة للقديس بطرس، أريد أن أعمل الشيء نفسه. ما أكثر النِعم التي نلتها من مريم العذراء بواسطة المسبحة الوردية خلال هذه السنوات! “تعظم الرب نفسي”. أريد أن أُعبّر عن شكري للرب مع كلمات أمه الفائقة القداسة التي وضعتُ حبريتي تحت حمايتها “إني بكُلِّيتي لكِ”.

 

3- سنة المسبحة الوردية

ولذلك، فإني بعدما عرضت تفكيري في الإرشاد الرسولي (Novo millennio ineunte) على أثر اختباري لأحداث اليوبيل، ودعوت شعب الله إلى أن ينطلق من المسيح انطلاقة جديدة، شعرتُ بضرورة تفكير أعمق في المسبحة الوردية. إنَّ هذا التفكير العميق هو تتويج مريمي لهذا الإرشاد الرسولي، هدفه أن أشجع بوساطته على المشاهد التأملية لوجه يسوع برفقة أمه مريم الفائقة القداسة وبالإقتداء بها. نعم، إن تلاوة المسبحة الوردية ليست إلا مشاهدة تأملية لوجه المسيح مع أمه مريم.

إني أريد أن أعطي لهذه الدعوة أهمية أكبر، لذلك فإني أغتنم ذكرى السنة المئة والعشرين للرسالة العامة التي أصدرها البابا لاون الثالث عشر، والتي ذكرتها، وأوضح رغبتي في أن تُعرض هذه الصلاة طوال السنة على الجماعات المسيحية المختلفة، وأن يبرز بروزاً خاصاً ما لها من أهمية. فأنا أعلن إذاً أن السنة التي تبدأ في تشرين الأول 2002 وتنتهي في تشرين الأول 2003 هي سنة المسبحة الوردية.

إني أودع هذا التوجيه الرعوي إلى مبادرة الجماعات الكنسية المختلفة. وأنا لا أنوي بذلك أن أثقل على المشاريع الرعوية القائمة في الكنائس المحلية، بل أريد أن أوحدها وأقويها. وإني على يقين أن هذا التوجيه سيقبله الجميع باندفاع وسرعة. فإذا ما اكتشفوا من جديد معنى المسبحة الوردية، استطاعت هذه المسبحة أن تقود المؤمنين إلى قلب الحياة المسيحية، وأن تقدم لهم مناسبة روحية وتربوية عادية وجليلة الفائدة للمشاهدة التأملية الشخصية، ولتثقيف شعب الله، وللبشارة الإنجيلية الجديدة.

وإنه يحلو لي أن أقول ذلك مرة أخرى بمناسبة ذكرى حادث آخر مفرح وهو ذكرى السنة الأربعين لافتتاح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (11 تشرين الأول 1962). لقد كان هذا المجمع نعمة عظيمة منحها روح الله للكنيسة في أيامنا.

 

4- اعتراضات على تلاوة المسبحة

إن ملائمة تلاوة المسبحة الوردية متأتية من عدة اعتبارات. إن أولها هو الإسراع في مواجهة أزمة تلاوة صلاة المسبحة الوردية. إن هناك خطراً كبيراً يهدد قيمة هذه الصلاة في الجو التاريخي واللاهوتي الذي نعيشه، ويجعلها لا تُعرض على الأجيال الطالعة إلا نادراً، ذلك لأن الكثيرين يعتقدون أن الأهمية المركزية للليتورجية الكنسية التي أبرزها المجمع الفاتيكاني الثاني، كان من نتائجها الحاسمة أنها أدت إلى إضعاف أهمية المسبحة الوردية. في الحقيقة، إن هذه الصلاة-كما أعلن ذلك البابا بولس السادس- لا تتعارض مع الليتورجية الكنسية، بل بخلاف ذلك، فإنها تقف سنداً لها، لأنها تهيئ المؤمنين لقبولها، وتكون لهم صدى في نفوسهم، وتدعوهم  إلى أن يحيوا الليتورجية الكنسية بمساهمة داخلية كاملة، لكي يجنوا منها ثماراً تفيدهم للحياة اليومية.

ويُبدي آخرون مخاوفهم من أن المسبحة تظهر مناقضة للحركة المسكونية، إذ أن لها طابعاً مريمياً واضحاً. في الحقيقة، إن إكرام مريم أم الله له طابع ديني لا يشوبه أي انحراف. لقد أعلن ذلك المجمع الفاتيكاني الثاني عندما حدد أن إكرام أم الله موجه إلى المسيح موضوع الإيمان المسيحي، بمعنى أن مختلف صيغ التكريم للعذراء يجعل الابن يُعرف ويُحب ويُمجد، فإذا ما اُكتشف هذا المعنى بطريقة سليمة، تكون تلاوة المسبحة سنداً لا عقبة للحركة المسكونية.

 

5- طرق المشاهدة التأملية

إنَّ السبب الأكبر لإعادة اكتشاف أهمية تلاوة المسبحة الوردية هو أن هذه التلاوة تؤلف وسيلة قيَّمة تنشّط عند المؤمنين الالتزام بالمشاهدة التأملية للسر المسيحي. لقد عرضت هذا الالتزام في الإرشاد الرسولي Novo millennio ineunte كطريقة تربوية صحيحة للقداسة “لا بد من دين مسيحي يمتاز قبل كل شيء بفن الصلاة”. ففي الوقت الذي تعلن الثقافة العصرية-في وسط تناقضات كثيرة- مطلباً ملحاً جديداً لروحانية تنجم عن تأثير ديانات أخرى، فقد بات من الضروري أكثر من أي وقت مضى، أن تكون جماعاتنا المسيحية مدارس صحيحة للصلاة.

إنَّ تلاوة المسبحة الوردية تدخل في قلب أنقى وأشهر تقليد للمشاهدة التأملية المسيحية. فإن هذه التلاوة قد انتشرت في الغرب وأصبحت بنوع خاص صلاة تأملية، وقابلتها صلاة القلب (أو صلاة يسوع) التي نمت في أرض الشرق المسيحي.

 

6- الصلاة لأجل السلام والأسرة

إنَّ هناك مناسبات تاريخية قد ساهمت في تجدي طابع المسبحة الوردية تجديداً أفضل. وأولى هذه المناسبات ضرورة الإلحاح على طلب نعمة السلام من الله تعالى. ففي مطلع الألف الثالث الذي بدأ بحوادث جريمة مروعة في 11 أيلول 2001 والذي لا يزال يسجل كل يوم في مناطق متعددة من العالم حوادث دموية وعنيفة، فإن اكتشاف دور المسبحة الوردية يعني الاستسلام إلى التعمق في المشاهدة التأملية لسر الذي هو سلامنا، الذي جعل من “الشعبين شعباً واحداً وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما أي الحقد” (أفسس 2: 14). فنحن لا يمكننا أن نتلو المسبحة من دون أن نشعر بأننا منجذبون نحو التزام دقيق في سبيل خدمة السلام، ولا سيما في أرض يسوع المعذبة والتي هي حبيبة على قلوب المسيحيين.

ومن ناحية مشابهة، فإنه من الضروري أن نلتزم بالصلاة لأجل وضع آخر قائم في عصرنا دقيق للغاية، وهو وضع الأسرة. فالأسرة التي هي خلية المجتمع، تهاجمها قوى هدامة على الصعيدين الإيديولوجي والعملي، هذا ما يجعلنا نخشى على مستقبل هذه المؤسسة الأولى التي لا يمكن الاستغناء عنها، كما نخشى معها على مستقبل الجماعة البشرية كلها. ففي الإطار الواسع لرعاية الأسرة، فإن تجديد تلاوة المسبحة الوردية في الأسرة المسيحية يهدف إلى تقديم مؤازرة فعالة لصد النتائج الجارفة التي تنتج عن هذه الأزمة الحالية.

 

7- هذه أمك

إنَّ علامات كثيرة تبين ما تريد العذراء القديسة أن تحققه اليوم من خلال الصلاة. إنها الأم الواعية التي سلم إليها المخلص قبل موته بلحظات في شخص التلميذ الحبيب كل أبناء الكنيسة ” يا امرأة هو ذا ابنك” (يوحنا 19: 26). إنَّ الأحداث التي أظهرت فيها أم المسيح حضورها وأسمعت صوتها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين لتحث شعب الله على هذا النوع من الصلاة التأملية هي أحداث معروفة، وبسبب تأثرها الواضح الذي تحتفظ به في حياة المسيحين، وبسبب اعتراف الكنيسة بأهميتها، فإني أرغب في أن أذكر بنوع خاص ظهورات لورد وفاطمة اللتين يؤم الكثير من الحجاج كلاً من كنيستهما للبحث عن المؤازرة والرجاء.

 

8- على خطى الشهود

إنه من المستحيل أن نذكر جميع أسماء المجموعة الكبيرة التي لا يحصى عددها من القديسين الذين وجدوا في تلاوة المسبحة الوردية طريقاً أميناً لبلوغ القداسة. يكفي أن نذكر منهم القديس لويس ماري غرينيون دي مونفور الذي كتب كتاباً نفيساً في تلاوة المسبحة الوردية، ونذكر من هو أقرب منه إلينا وهو الأب بيو من بيترلشينا Padre Pio da Pieterlcina الذي ابتهجتُ بتطويبه منذ مدة قريبة. أما الطوباوي بَرتولو لونغو فقد كانت له موهبة خاصة وهي موهبة رسول تلاوة المسبحة الوردية، إنَّ طريق القداسة ارتكز عنده على إلهامٍ سمعه في أعماق قلبه: “من نشر تلاوة المسبحة الوردية نال الخلاص” وانطلاقاً من هذا الحدث، شعر بأنه مدعو أن يبني في مدينة بومباي Pompei معبداً لسيدة الوردية بقرب آثارات المدينة القديمة التي كانت البشارة الإنجيلية قد دخلتها منذ عهد وجيز قبل أن تُفن تحت انفجار بركان فيزوف Vsuve في العام 79، والتي عادت إلى الحياة بعد قرون طويلة لتشهد أنوار الحضارة الكلاسيكية وظلالها.

إن بَرتولو لونغو قد أنعش بعمله الخاص ولا سيما بالسبوت الخمسة عشر روح المحبة للمسيح وفكرة المشاهدة التأملية بالمسبحة الوردية. وقد لاقى في سبيل ذلك تشجيعاً خاصاً وسنداً لدى البابا لاون الثالث عشر (بابا المسبحة الوردية).


قد يعجبك ايضاً
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.